إسلام عبد المعبود يكتب .. ”في الزير كانت الميّة أطيب: ذاكرة الريف ومفهوم الاستدامة الفطرية”
في الوقت اللي بقت فيه كلمة "استدامة" جزء من كل مؤتمر أو منشور توعوي عن البيئة، لسه في ناس فاكرة الاستدامة وهي لسه ما كانش ليها اسم، بس كان ليها طعم... طعم ميّة الزير.
أنا من قرية في ريف مصر. قضيت هناك طفولتي، ولسه أهلي عايشين هناك، وكل ما بروح، بشم ريحة الذكريات، وخصوصًا لحظة بسيطة جدًا... شرب الميّة من الزير.
كان الزير واقف في نص البيت، مصنوع من الفخار، كبير وعريض، ومغطى بغطا خشب أو قطعة قماش، الميّة جواه كانت بتبقى ساقعة بشكل طبيعي، منعشة، ومالهاش طعم الميّة اللي بنشربها من الزجاجات البلاستيك أو التلاجات، وكان في كوباية ألمونيوم أو إزاز صغيرة، دايمًا متعلقة جنب الزير.
بس الموضوع ما كانش مجرد شرب، الزير كان رمز لنمط حياة.
الميّة بتتخزن وتتوزع، ما فيش حاجة بتترمي. كل نقطة ليها تمن.
وفي البيت، كانت كل حاجة ليها دورة حياة طويلة: برطمان الزبادي بيتحول لعلبة توابل، كيس السكر بيتغسل ويتخزن، قشر البصل بيتنشف ويتحط في الطبيخ، حتى الميه اللي اتغسل بيها الرز كنا بنسقي بيها الزرع.
جدتي كانت تقول: "ما فيش حاجة ملهاش فايدة... اللي يرمي، يبقى مش عارف قيمتها."
وده في الحقيقة، جوهر الاستدامة، بس من غير ما حد يسميها كده.
في وقت كانت فيه الحياة بسيطة، والعلاقة بين الإنسان والطبيعة مباشرة، كانت مفاهيم زي إعادة الاستخدام، تقليل الهدر، واحترام الموارد، هي العادي والطبيعي. مش لسبب بيئي... لكن عشان ده كان أسلوب حياة، مرتبط بالإحساس بالبركة، والحفاظ على الموجود.
النهارده، في المدن، بقينا بنشتري مية في زجاجات، ونرمي أكتر ما نستخدم، ونعيش في دوامة استهلاك سريعة. وبنفكر إن الحل في تكنولوجيا جديدة، أو سياسات ضخمة، وده ضروري طبعًا... لكن كمان، يمكن الحل في الرجوع لحاجات كنّا بنعملها واحنا مش واخدين بالنا.
الزير، كرمز، هو أكتر من إناء فخار. هو طريقة تفكير. هو احترام للنعمة، وتصالح مع الطبيعة، وإيقاع أبطأ وأهدى للحياة.
يمكن مش كلنا نقدر نرجع للزير فعلاً، لكن نقدر نرجع لفكرته.
نفكر قبل ما نرمي، نعيد استخدام بدل ما نستهلك، ونفتكر إن "القديم" ممكن يكون فيه
مفاتيح لحياة "أحسن".
