ماسح الأحذية: من رصيف الانتظار إلى خشبة كتارا.. حكاية مسرح يتجاوز الحدود


في أمسية مسرحية عابقة بالتأمل والجمال، احتضن مسرح الدراما في المؤسسة العامة للحي الثقافي "كتارا" العرض المسرحي "ماسح الأحذية"، القادم من تونس، بعد أن أضاء خشبات مهرجان "أيام قرطاج الدولي للمونودراما" ونال فيه جائزتي أفضل نص وأفضل إضاءة. حضور العرض في الدوحة لم يكن مجرد محطة فنية، بل تجلٍّ جديد لرؤية قطر الثقافية وسعيها لترسيخ مكانتها على خارطة المسرح العربي والعالمي.
المسرحية، التي كتبها الدكتور خالد الجابر، وأخرجها الفنان حافظ خليفة، جاءت كثمرة تعاون ثقافي بين قطر وتونس، وقدمها الممثل محمد العباسي بأداء صادق، جمع بين التعبير الجسدي المكثف والانفعالات الدقيقة. وقد تم إنتاجها بدعم من مؤسسة "كتارا" ومن خلال شركة "جسور" للإنتاج الفني.
وفي كلمته خلال التكريم، عبّر الدكتور خالد بن إبراهيم السليطي، المدير العام لـ"كتارا"، عن اعتزازه بالشراكة الإبداعية بين البلدين، معتبرًا أن العرض يتجاوز المفاهيم التقليدية للمسرح، ويُقدّم تجربة فنية تتحدث بلغة الوجدان المشترك. وأكد أن "كتارا" ستظل حاضنة للمسرح النوعي، وداعمة للأعمال التي تحترم ذكاء الجمهور وتحفّزه على التأمل.
وأضاف السليطي أن "ماسح الأحذية" لا يقع في فخ المباشرة أو الشعارات، بل يقدم نصًا عميقًا، يدعو المتلقي إلى مواجهة الذات، واكتشاف طبقات المعنى من خلال صمتٍ كثيف ولغة بصرية مشحونة. واعتبر أن الجوائز التي حصدها العرض ليست فقط تكريمًا له، بل تمثّل مؤشرًا على صعود جيل جديد من المسرحيين يكتبون من أجل الوعي لا من أجل التصفيق.
من جانبه، عبّر مؤلف العمل، الدكتور خالد الجابر، عن امتنانه لمؤسسة "كتارا" التي دعمت المشروع منذ انطلاقته، مشيرًا إلى أن هذا الدعم أسهم في تشكيل رؤية العرض ونضوجه فنيًا. وأوضح أن المسرحية لا تقدم حكاية تقليدية، بل تطرح أسئلة وجودية من خلال رموز بسيطة وعميقة. الأحذية في النص لم تكن مجرد تفاصيل عابرة، بل تحوّلت إلى شواهد على كبرياء مكسور، والفضاء المسرحي حمل داخل طياته أصوات الذات وهي تفتّش عن يقين ضائع.
أما المخرج حافظ خليفة، فقد سلّط الضوء على دور الإضاءة في تعزيز الأبعاد الرمزية للعرض، معتبرًا إياها شريكًا أساسيًا في التعبير الدرامي، حيث عكست هشاشة الأمل وغموض المصير في ملامح الشخصيات. كما أشار إلى بساطة الديكور الذي اقتصر على محطة قطار مهجورة، مقاعد وحقائب، لكنه في جوهره شكّل عالماً دراميًا غنيًا بالتوتر والحنين.
الفضاء المسرحي كان أشبه بمرآة كاشفة لواقع عربي مأزوم، حيث تدور الأحداث بين خمس شخصيات متقاطعة، يجمعها الانتظار والفقد، وتعبّر كل منها عن شروخ داخلية لا تُرمم. الصوت المتكرر للقطار الغائب لم يكن مجرد خلفية صوتية، بل استعارة للزمن المعلّق، والحلم المؤجل.
بعد نجاح العرض في تونس والدوحة، يتهيأ فريق المسرحية للانطلاق في جولة عربية ودولية تشمل القاهرة، الرباط، عمّان، ثم عواصم أوروبية وأمريكية مثل مدريد وباريس وكندا والولايات المتحدة، في محاولة لفتح نوافذ جديدة أمام هذا النص الرمزي الطافح بالأسئلة.
تجربة "ماسح الأحذية" نجحت في كسر النمط التقليدي للمونودراما، مقدمةً مسرحًا يتنفس العمق والصدق، وينتصر للبساطة في الشكل والثراء في المضمون. إنها تجربة تلامس الروح، وتترك في المتلقي أثرًا لا يُمحى.