نص كلمة شيخ الأزهر خلال احتفالية المولد النبوي الشريف


ألقى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، كلمة بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف 2025، بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، بمركز المنارة للمؤتمرات الدولية بالقاهرة.
وإلى نص كلمة شيخ الأزهر..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاةُ والسَّلامُ على سَيِّدِنا ومولانا رسول الله، وعلى آلِه وصَحْبِه..
فخامة السَّيِّد الرَّئيس/ عبد الفتَّــاح السِّيسي – رئيس جمهوريَّة مصر العربية (حفظه الله!)
الحَـــفْلُ الكَــــريم!
السَّلَامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.. وبعد؛
فَفِي بِدايةِ كلمتي يُسعدني أنْ أتقدَّمَ إليكُم -سيادة الرئيس!-، وإلى شعب مصر الكريم، وإلى الأُمَّتين: العربيَّة والإسلاميَّة، شُعوبًا وحُكَّامًا بأطيبِ الأماني بحُلُولِ ذكرى مولد خَيْرِ النَّاس وأكرمهم وأرحمهم وأعظمهم: سَيِّدنا محمَّد صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانِه من الأنبياءِ والمُرسَلين..
سيادَة الرَّئيس! الحَــــفْلُ الكَـــريم!
إنَّ أوَّلَ ما نستروحه من نسائمِ هذهـ الذكرى الكَريمة ومن نفحاتِها، هو أنَّ الاحتفالَ بها هذا العام هو احتفالٌ بذكرى ضاربةٍ في جذورِ الأزمانِ والآبادِ أَمَدًا طويلًا، ذكرى مرور ألفٍ وخَمسمائةِ عامٍ على مَوْلِدِه ﷺ
إنَّ التاريخَ يُحدِّثُنا بأنَّه ﷺ نزلت عليه الرسالةُ الإلهيَّةُ وهو في سِنِّ الأَربعين، وأنَّه قضى بمكَّةَ المكرَّمةِ ثلاثة عشر عامًا يدعو النَّاسَ إلى دينِ التوحيد، ثُمَّ هاجَرَ بعدها إلى المدينةِ المنوَّرة وعُمْرُهـ الشَّريف آنذاك ثلاثة وخمسون عامًا قمريًّا، وقد مَكَثَ صلوات الله وسلامه عليه عشرة أعوام بالمدينةِ المنوَّرة، ثم لَقِيَ ربَّه بعد ذلك حين كان عُمْرُهـ ثلاثةً وستينَ عامًا، ويَتبيَّنُ من كُلِّ ذلك أنَّ ذكرى المولد في عامِنا هذا هي الذكرى المِئويةٌ التي يكتملُ بها مرور ألف وخَمسمائة عام على مَوْلدِه ﷺ، وأنَّ هذهـ الذكرى لا تتكرَّر إلَّا على رأسِ كل مائة عامٍ من عُمْرِ الزمان..
ولعلَّها بُشرى لنا مَعشرَ أبناء هذا الجيل – عسى الله أنْ يُفرِّجَ بها كرب المكروبين وغمَّ البؤساء والمستضعفين، برحمتِكَ يا أرحمَ الرَّاحمين، وبالرَّحمةِ التي أَرسلتَ بها رسولَك إلى العالمين.
هذا؛ وإنَّ من واضحات الأمور وبَدَهِيَّاتها أنَّ ميلادَهـ صلوات الله وسلامه عليه، ليس بميلادِ زعيمٍ من الزُّعماءِ أو عظيمٍ من العُظماءِ أو مُصْلحٍ أو قائدٍ أو فاتِحٍ مِغْوارٍ، وإنْ كان كلُّ ذلك، وأكثرُ منه، قد جُمِعَ له في إهابِه النَّبوي الشَّريف، وله منه الحَظُّ الأوفى والسَّهْمُ الأوفر، وأنَّ حقيقةَ الأمر في ميلادِهـ -صلوات الله وسلامه عليه- أنَّه ميلادُ «رسالة إلهيَّة خاتمة» أُرسِل بها «نَبيٌّ» خاتَم، وكُلِّف أنْ يدعوَ إليها كافَّةَ النَّاس في مشارقِ الأرض ومغاربِها «بدعوةٍ واحدةٍ، وعلى سُنَّةِ المساواةِ بين الشُّعُوبِ والأجناس»()، وقد أكَّدَ القرآنُ الكريم هذهـ الحقيقة في قولِه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].
وقوله سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ♂ [سبأ: 28].
كما أكَّدَها هو نفسه في قولِه: «أُرسِلتُ إلى الخَلْقِ كافَّةً، وخُتِمَ بي النَّبيُّونَ»، وإذا كانت دعوةُ هذا النبي الكريم من السعة بحيثُ تَتَّسعُ لخطابِ العالَمِينَ على اختلافِ أزمانهِم وأماكنهم وأحوالهم وطاقاتهم، فإنَّ من المنطقي أنْ يسبق ذلك إعدادٌ خاصٌّ للنَّبي الدَّاعي بهذهـ الدَّعوةِ، في طاقاتِه الرُّوحيَّة والجَسَديَّة حتى يتمكَّن من النهوضِ بالعبءِ الثقيل الذي سُيلْقَى على كاهلِه الشَّريف: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزَّمِّل: 5-6].
ولقد كانت صفةُ «الرحمة» من بين سائرِ الصِّفات التي تحلَّى بها، وبما هي رحمةٌ للعاملين أجمع- هي الأَنْسَبُ والأشبه بالدعوةِ العابرة لأقطارِ الدُّنيا، والمتعاليةِ فوق حدود الزمان والمكان، وأنَّها التأهيل الذي يُشاكل الرسالة في عمومِها وعالميتها.
وإذن فهاهنا دعوةٌ عامَّةٌ عالميَّةٌ، تُرافقُها رحمةٌ عامَّةٌ عالميَّة تسَعَ النَّاسَ بكلِّ ما انطوت عليه أخلاقُهم، وحظوظُهم من الخَيْرِ والشَّرِّ، والبِرِّ والفُجُورِ والعدل والظلم والهُدى والضَّلال والطَّاعةِ والمعصية، وما شئت من هذهـ الثنائيات التي توزَّعتْ عليها طباعُ بني آدَم وتصرُّفاتُهم ومعاملاتهم، وإذا كُنَّا نقرأُ في القرآنِ الكريم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ♂ [سبأ: 28]، فإنَّا نقرأُ فيه أيضًا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ♂ [الأنبياء: 107]، كما نقرأ قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ♂ [التوبة: 128]، وقوله سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ♂ [آل عمران: 159]، ونقرأُ في سُنَّتِه الشَّريفة: «إنَّما أنا رحمةٌ مُهداةٌ».
الحضــور الكَـــــريم!
إنَّ مَن يتأمَّلُ في سيرةِ هذا النَّبي الرَّحيم يُدركُ -في وضوحٍ وجلاء- أنَّ صِفَةَ «الرَّحمة» هي أخصُّ خصائصَ صفاتِه التي صدرت عنها كلُّ أفعالِه وأقوالِه وتصرُّفاتِه مع أهلِه وأصحابِه وأصدقائِه وأعدائِه على امتدادِ عُمْرِهـ الشَّريف، وإذا كان إثباتُ هذه الدَّعوى أو الاستشهادُ عليها من سيرتِه ﷺ أمرًا يخرجُ عن حدودِ طاقةِ البحث - فإنَّ ما يجدُر في هذهـ المناسبة هو: قوانينُ «الحرب» التي رَسَّخها نبيُّ الإسلام مُحمَّد ﷺ، وكيف جاءت مُصَدِّقةً للآيةِ الكَريمـــة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
وخُلاصَةُ القولِ في هذا المقامِ هو أنَّ «الحروبَ» منذُ القِدَم وحتى يوم الناس هذا، هي ساحةٌ للعنفِ وللعُدوانِ والقتلِ المتبادَل من الطَّرفينِ المتحارِبَين، وهي من المواطن التي تُمدَحُ فيها القَسوة والخُدعة والكذب والتَّضليل، وأنَّ المعاملةَ الرَّحيمة ليست مِمَّا يُمَجَّدُ في ساحاتِ الوغى، وكان المتوقَعُ أنْ تجريَ الحربُ في الإسلامِ على هذه القاعدة، ولو أنَّها جرت عليها لما توجه على المسلمين فيها عتْبٌ ولا لوم، ولكن الشَّريعةَ الخاتمة والخالدة طالَعتنا في هذا المجالِ بقواعدَ صارمةٍ لم تَعرفها البَشريَّة من قبلُ في تاريخِها البعيد، كما طالَعنا علماءُ المسلمين وأئمَّتهم بأحكامٍ تشريعيَّةٍ مُستمَدَّةٍ من كتابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبيِّه، تختصُّ كلُّها بفقهِ الجهاد وبقواعدِ الحرب وقوانينها، وما يجبُ فيها وما يَمتنع، وما يجوزُ وما يحرُم، وأحكامِ اتِّفاقيات السَّلام، والصُّلح، والأَسْرَى والمعاهدات، وأحكامِ الأمان وكلِّ ما له صِلة من قريبٍ أو بعيدٍ بالعلاقاتِ الدوليَّة بين المسلمينَ وغير المسلمين سِلْمًا وحَرْبًا، وقد استقلَّ بكلِّ هذهـ الأحكام «فقهٌ» نشأ في وقتٍ باكرٍ من تاريخِ الإسلام يُسَمَّى بفقه «السِّير».. وأَقْدَمُ ما نعرفُه من مُصنَّفاتِ هذا العِلْم كتابان، كتاب: «السِّير الصَّغير»، وكتاب: «السِّير الكبير»، وكلاهما للإمامِ الفقيه محمد بن الحسن الشيباني – من أئمة الفقه في القرن الثاني الهجري، والذي تنعته الدراساتِ القانونيَّة الحديثة بأنَّه أوَّلُ رائدٍ من روَّادِ التأليف في القانونِ الدولي. وأنَّه سَبق -بهذهـ الرِّيادة- غروسيوس الهولندي من أبناءِ القرن السَّابع عشر الميلادي، والملقَّب بأبي القانون الدولي في عَصْرِهـ.
وما إنْ أهلَّ القرن الرابع الهجري حتى جاءَ الإمام السِّرخسي فشرحَ كتاب الشيباني هذا شرحًا، طُبِــعَ في القاهرة عام 1971م في خمسةِ مُجلَّداتٍ بلغتْ صفحاتُها خمسًا وتسعينَ ومائتين وألفَي صفحة.. نعم 2295 كلُّها في أحكامِ العلاقاتِ الدوليَّة في السِّلْمِ والحرب.. ويَذْكُر بعضُ مُحَقِّقي التُّراث: «أنَّ علماءَ القانون الدولي والمُشتغلينَ به في مختلفِ بلاد العالم أَسَّسُوا جمعيَّة في جوتنجن بألمانيا باسم: «جمعية الشيباني للحقوقِ الدوليَّة»، وانتُخِبَ لرئاستِها الفقيهُ المصري الكبير المرحوم: عبد الحميد بدوي، وتهدفُ هذهـ الجمعية إلى التعريفِ بالشيباني ونشر آرائه ومؤلَّفاته المتعلقة بأحكامِ القانونِ الدوليِّ الإسلاميِّ»().
......
هذا؛ ومِمَّا يمكن أنْ يُلِمَّ به المتعجِّل من أحكامٍ في هذهـ الموسوعةِ النفيسة: أنَّ القتلَ في الإسلام هو -حَصْرًا- لدفعِ الاعتداء، وأنَّ الأصلَ في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هي السِّلم، إلى أن يقعَ عليهم اعتداء أو ظُلم، فتكون الحرب -حالتئذٍ- أمرًا لا مَفَرَّ مِنه حمايةً للفضيلة أنْ تتغوَّل عليها الرذيلة، وسوءُ التصرُّف ودناءةُ الخُلُق: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج: 39- 40].
ومِمَّا أجْمَعَ عليه فقهاءُ المسلمينَ -في فقه الحروبِ- حُرْمَةُ الإسراف في القَتْلِ والتَّخريب والتَّدمير والإتلاف، ووجوب أن يكون القِتال محصورًا في دائرة رَدِّ: «الاعتداء» لا يتجاوزهـ إلى التَّشَفِّي أو الإبادة أو الاستئساد الكاذب، فكلُّ هذهـ جرائمُ وخبائثُ في قتالِ العدو: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190].
وفي هذهـ الآية أمر بأن تكون الغاية من قتالِ العدو هو: سبيل الله، أي: شرعه وحُكمه في مقاومة العدوان والظُّلم والعسف والغطرسة والاستعلاء على الآخَرين، وألَّا يكون القتال وسيلة لمطامعَ دنيويَّةٍ حقيرةٍ، من استعمارٍ أو تسلُّطٍ أو انقضاضٍ على أرضِ الغير، أو بسطٍ للسيطرة على مُقدَّراتِ الآخَرين وثرواتهم، أو غير ذلك من الأسبابِ والدَّواعي التي أشعلتْ -ولاتزالُ- تُشعل الحروب العَبَثِيَّة الجائرة في القرنَين: العشرين والواحد والعشرين، قرني التقدُّم التِّقني والعلمي والرفاهية والسَّلام وحقوق الإنسان، وغيرها من كواذب الأساطير وأوهام الأباطيل.. وفي الآية أيضًا نهيٌ عن الإسرافِ والزيادة في إزهاقِ الأرواح، فهذا عُدوانٌ يَـكرَهُه الله تعالى ويمقته ويُحَرِّمُه: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ♂ [النَّحْل: 126].. ومِمَّا يلفت النَّظَر في شريعةِ الإسلام في الحروبِ احترام آدمية العدو وإنسانيتَه، وهو يَقتِلُ أو يُقتَل، يتَّضحُ ذلك من دعائِه ﷺ قبل ابتداء القتال، والذي يقولُ فيه: «اللهم إنَّا عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، اللَّهُمَّ اهزمهم وانصُرْنا عليهم»().. وانظروا -حضراتكُم- إلى هذا النُّبْل الإنساني العجيب في مُراعاة «الأُخوَّة الإنسانيَّة» والاعتراف للعدو بأنَّه شريكٌ للمسلمين في الخَلْق وفي العبوديَّة للهِ تعالى، وأنَّ له حقوقًا تجبُ مراعاتها حتى وهو يبذل مهجته دفاعًا عمَّا يؤمنُ به ويعتقدهـ، وإنَّه لنُبْلٌ يَنْدُر، بل يَستحيل، أنْ يَستقلَّ به أو يطيقه قلبٌ غير قلب هذا النبي العظيم صلواتُ الله وسلامه عليه.
وفي هذا المجال تعلمونَ حضراتُـكُم حُرمَة قتل العدو الذي لا يُشارِكُ في القتالِ ولا يحملُ السِّلاح في المعركة، كالأطفال والنِّساء والشيوخ ورجال الدِّين في الصَّوامع والأديرة، والعَجَزة والزُّرَّاع وغيرهم، كما يحرُم تدميرُ المنشآت والمباني وتخريبها، وبخاصَّةٍ دورُ العبادة والمستشفياتُ ودورُ التعليم، والمنافع العامَّة، وغيرُها مِمَّا هو مَعلومٌ للجميع..
وخُلاصَةُ القول في هذا الموضوع البالغ الدِّقَّة، هو ما قالَه أديبُ اللُّغةِ العربيَّة: مصطفى صادق الرافعي، من «أنَّ المسلمينَ في معاركِهم يحملونَ السِّلاح ويحملونَ معه الأخلاق، فمِن وراء أسلحتهم أخلاقهم، وبذلك تكون أسلحتهم نفسها ذات أخلاق»()، وينتهي إلى ما يُشبِه الحِكْمَة فيقول: «إنَّ لِسيوف المسلمينَ أخلاقًا».
الحـــفلُ الكَــــريم!
ليس القصد من وراءِ هذهـ الكلمة الموجزة عن «الحربِ» في الإسلامِ هو المقارنة بين حروبِ المسلمين وحروب عصرنا الحاضر، ودواعيها وبواعثها، وما تبثُّه الفضائيَّات من مشاهدها الشديدة القسوة في غزَّة أو أوكرانيا أو السودان الشَّقيق أو أقطار أخرى تُجرُّ إلى حروبٍ لا ناقةَ لها فيها ولا جَمَل.. ذلكم أنَّ المقارنة بين أمرينِ تقتضي اشتراكهما في وصفٍ أوَّلًا، قبل أنْ يثبت رجحان أحدهما على الآخَر في هذا الوصف، وهذا الاقتضاء مفقودٌ فيما نحن بسبيلِه، فأيَّة مقارنة تصِحُّ بين نظامٍ يُحرِّم قتل أطفال عدوِّهـ، ويُحمِّلُ جنودهـ مسؤولية الحِفاظ على حياتهم، ونظامٍ يَحْرِصُ على تجويعِ أطفالِ غزَّة حتى إذا ما التصقتْ جلودهم بعظامهم استدرجهم دُعاةُ الديموقراطيَّة وحقوق الإنسان إلى حيث يصبُّ على رؤوسِهم من جحيمِ المتفجِّرات ما يحيل أجسامِهم النَّحيلة إلى ترابٍ أو إلى ما يُشبه التُّراب، وهل يَصِحُّ في عقلِ العُقلاء وحِكْمَة الحُكَماء أن تُعْقَدَ مقارنة فيما يقولُ الإمام الشيخ أبو زهرة -♫!-، بين الخَيْرِ والشَّرِّ، أو بين النُّور والظلمة، أو بين الفضيلةِ والرذيلة؟! ورَحِمَ الله المُتنبِّي وهو يُقرِّرُ هذا المعنى شِعْرًا في قولِه:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُـ * إِذَا قِيلَ: إِنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ الْعَصَا
الحُــضور الكَــريم!
لقد آن الأوان لتذكُّر دروس الماضي والاتعاظ بأحداثِ التاريخ في هذهـ المنطقة، وعلى أرضِ فلسطين الأبيَّة الحافلة بتاريخٍ من النِّضالِ والصُّمود، حين احتلَّها الصَّليبيُّون قَرْنًا كامِلًا، وقتَلوا الآلاف مِن المسلمينَ والمسيحيِّين واليهود، وأقاموا الولايات الصَّليبيَّة، حتى إذا ما اتَّحدَ العرب والمسلمون واصطفُّوا خلف القائد البطل صلاح الدين عاد الصليبيون من حيث أَتَوا وعادت الأرض إلى أصحابِها.
وما أَظُنُّ أنَّ أحدًا يرتابُ اليوم في أنَّ الحَلَّ الذي لا حَلَّ سواهـ هو في تضامنٍ عربيٍّ يدعمه تضامنٌ إسلاميٌّ يقوِّيه ويَسنُد ظهرهـ.. نقولُ هذا ونؤكِّدُ في الوقتِ نفسِه أنَّنا -عَلِمَ اللَّهُ- لَسْنَا دُعاة حروب أو صِراعات، بل نحن دُعاةُ عدالة وإنصاف واحترام متبادَل، وكيف لا! وقد نهى نبينا الكريمُ -صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه- أن نتمنَّى لقاءَ العدوِّ، وأمرَنا أنْ نسألَ اللَّهَ العافيةَ منها، والعدلُ والسَّلامُ الَّلذان ندعو إليهما هما: العدلُ والسَّلامُ المشروطان بالإنصافِ والاحتِرامِ، وانتِزاعِ الحقوقِ الَّتي لا تقبَلُ بيعًا ولا شراءً ولا مساومةً، عدلٌ وسلامٌ لا يَعْرِفان الذِّلَّةَ ولا الخُنُوعَ، ولا المِسَاسَ بذرَّةٍ واحدةٍ من تُرابِ الأوطانِ والمُقدَّساتِ.. عدلٌ وسلامٌ تصنعُهُما قُوَّةُ الإرادة والعِلْمِ والتَّعليمِ والتنميةُ الاقتصاديَّةُ السَّليمة، والتَّحكُّمُ في الأسواقِ، والتَّسليحُ الَّذي يُمَكِّنُ أصحابَهُ من ردِّ الصَّاعِ صاعَينِ، ومِن دَفْعِ أيَّة يَدٍ تُحاولُ المِساسَ بالأرضِ والشَّعب.
وَخِتامًا سِيادة الرئيس!
إنَّنا في الأزهر الشَّريف نَشُدُّ على يديكُم وندعو الله أنْ يقويَ ظهركُم، وأنْ يوفِّقَكُم فيما أنتُم ماضونَ فيه من الثَّباتِ على الموقِف الرَّافضُ لذوبانِ القضيَّة الفلسطينيَّة، وحماية حقوق الشَّعب الفلسطيني في البقاءِ على أرضِه، والرَّفض القاطع لمؤامرات التَّهجير والتشبُّث بالموقفِ المصريِّ التاريخيِّ في حمايةِ القضيةِ الفلسطينيَّة ومُساندة الفلسطينيِّين..
شُكْرًا لِحُسْنِ اسْتِماعكُم..
والسَّلام عَليكُم وَرَحـْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه