17 ديسمبر 2025 20:02 26 جمادى آخر 1447
مصر 2030رئيس مجلسي الإدارة والتحرير أحمد عامر
المنوعات

قصيدة سرنديب: محمود سامي البارودي والصراع الشكسبيري في منفى سيلان

مصر 2030

يُعد محمود سامي البارودي (1838–1904) شخصية استثنائية في التاريخ المصري الحديث؛ فهو ليس مجرد شاعر، بل كان سياسياً ومناضلاً وطنياً قادماً من خلفية عسكرية، جمع بين صرامة القيادة ورقة الكلمة. تُجسّد قصيدته الشهيرة، قصيدة سرنديب، خلاصة المرارة والعزة التي عاشها في منفاه بجزيرة سيلان (سرنديب)، لتصبح من أجمل الأشعار التي قيلت في المنفى، وتظل حاضرة بقوة في ساحة أخبار الثقافة والفن حتى يومنا هذا. هذه القصيدة هي مرآة لروحه التي رفضت الانكسار رغم قسوة الظروف، وهي دليل على أن الأدب الحقيقي يولد غالباً من رحم المعاناة السياسية والوطنية العميقة.

سرنديب: المنفى الذي نزع ثياب العلائق

قضى البارودي سبعة عشر عاماً كاملة في منفاه القسري بجزيرة سيلان، التي كانت محطة نفي لرموز الحركات الوطنية المعارضة للاحتلالين العثماني والإنجليزي. لم يكن نفي البارودي لكونه شاعراً، بل لكونه مناضلاً وطنياً كبيراً ومشاركاً رئيسياً في سياسات بلاده المناوئة للنفوذ الأجنبي. وفي تلك العزلة القاسية، كتب قصيدة "سرنديب" التي تُعتبر إعلاناً شعرياً عن ثبات مبادئه ورفضه للضيم، كما يظهر في قوله:

"فما غيّرتني محنة عن خليقتي/ ولا حولتني خُدعة عن طرائقي

ولكنني باقٍ على ما يسرني/ ويُغضب أعدائي ويُرضي أصادقي"

هذه الأبيات لا تُظهر فقط قوة الشخصية، بل تُقدم نموذجاً للشاعر الذي يرى في المنفى غربة نزعت عنه "ثياب العلائق" (القيود)، ليصقل روحه ويعزز إصراره على التمسك بالمجد والعزة. كان المنفى بالنسبة له اختباراً للذات، حيث تتساوى فيه مرارة البعد عن الأحبة بفرحة البعد عن "عدو مُمَاذِق"، مُعلناً أن النجاة غنيمة في دنيا ملؤها المكائد.

في مهب السياسة: من الوزارة إلى المنفى

لم تكن رحلة البارودي إلى المنفى حدثاً عفوياً، بل كانت محصلة لتطورات سياسية درامية في مصر نهاية القرن التاسع عشر. بعد أن حاول محمد شريف باشا، رئيس مجلس النظار، إرساء دعائم دستور قوي يفرض مسؤولية الوزارة أمام مجلس شورى النواب، تدخلت الحكومتان الإنجليزية والفرنسية لدى الدولة العثمانية لإقصاء الخديو إسماعيل وتولية ابنه توفيق.

فترة توفيق المضطربة

عندما تولى الخديو توفيق الحكم، أسند رئاسة الوزارة إلى شريف باشا، الذي ضم البارودي ناظراً للمعارف والأوقاف. حينها، حيا البارودي توفيق بقصيدة حماسية تحثه على إصدار الدستور وتأييد الشورى، مُظهراً انخراطه العميق في الشأن السياسي والإصلاحي. ولكن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً:

  • تراجع الخديو توفيق عن وعوده الإصلاحية.

  • تم القبض على جمال الدين الأفغاني ونفيه من البلاد.

  • أجبر شريف باشا على تقديم استقالته، وتولى الخديو زمام الوزارة بنفسه، مع إبقاء البارودي في منصبه لفترة وجيزة، قبل أن تُبعده التطورات اللاحقة تماماً عن الحكم.

هذه التقلبات السريعة تؤكد أن البارودي كان شخصية محورية في صراع السلطة والإصلاح ضد النفوذ الأجنبي، وأن مصيره كان مرهوناً بمهب الرياح السياسية العاصفة.

الصراع الداخلي: البارودي والشخصية الشكسبيرية

تُصوَّر شخصية محمود سامي البارودي عادة على أنها شخصية هادئة ومتزنة اتخذت قرارها الثوري بالوقوف إلى جانب أحمد عرابي بكل بساطة ومنطق وطني. لكن الحقيقة، كما يكشفها التحليل المعمق لتلك الفترة، تضعنا أمام شخصية ذات أبعاد شكسبيرية عميقة، مليئة بالصراع والقلق الداخلي.

لم يكن وقوف البارودي مع الثورة العرابية اختياراً سهلاً أو عفوياً. بل سعى جاهداً للتخفيف من حدة غلواء ضباط الجيش بقيادة عرابي، خاصة بعدما أدت حركتهم إلى عزل وزارة رياض باشا واستقالة حكومة شريف باشا.

  • محاولة التوفيق: قبِل البارودي تشكيل الحكومة التالية في محاولة يائسة للتوفيق بين الضباط الثائرين والخديو، إيماناً منه بأن أي تصدع بين الطرفين سيفتح الباب على مصراعيه للتدخل الإنجليزي والأوروبي.

  • لحظة الانفجار الداخلي: صُدم البارودي بمطالبة الضباط بعزل الخديو توفيق. عاش أياماً من الحيرة الشديدة، متردداً بين قناعاته بضرورة بقاء الخديو للحفاظ على وحدة مصر، وبين صعوبة التخلي عن الثوار الذين شاركهم حلم الإصلاح.

هذا الصراع بين الواجب الوطني تجاه الوحدة والوفاء للعهد الثوري كاد أن يمزقه نفسياً. وفي نهاية المطاف، اختار الوقوف إلى جانب الثوار، لكنه سرعان ما نصحهم بالتروي والتهدئة، حتى آثر الاعتزال التام والخلود إلى مزرعته، معتقداً أن الابتعاد عن الساحة ينجيه.

الثمن الباهظ: نهاية قرن وعودة ضرير

لم ينفع اعتزال البارودي، فسرعان ما انهزمت الثورة العرابية ودخل الإنجليز، وتم نفي محمود سامي البارودي إلى جزيرة سرنديب. تلك السنوات السبع عشرة الطويلة لم تستهلك فقط زهرة شبابه وأزهى سنوات عمره السياسي والشعري، بل أعادته إلى مصر في نهاية القرن التاسع عشر ضريراً واهناً عجوزاً.

لكن المنفى لم يكن نهاية البارودي، بل كان ميلاداً لـ "رائد الشعر العربي النهضوي". لقد كان المنفى بوتقة صهرت فيها تجربته السياسية القاسية ليخرج منها شعراً خالداً، يُعبّر فيه عن نضاله الأخلاقي والوطني:

"ولكنني ناديت بالعدل طالباً/ رضا الله واستنهضْتُ أهل الحقائق

أمرتُ بمعروف وأنكرْتُ مُنكَراً/ وذلك حكمٌ في رقاب الخلائق"

بهذه الكلمات، يختصر البارودي مبررات ثورته وصراعه، مؤكداً أن جوهر نضاله كان منصباً على العدل والإنكار للمنكر، وهو ما يرفع تجربته من مجرد حادثة سياسية إلى قصة إنسانية ووطنية عميقة.

الخلاصة

تظل "قصيدة سرنديب" لمحمود سامي البارودي وثيقة أدبية وسياسية نادرة، تكشف عن الروح التي لم تنكسر أمام قسوة المنفى وخيانة الأقدار. لقد كان البارودي، السياسي والشاعر، شخصية جسدت التضحية بكل ما للكلمة من معنى. إن قراءة شعره اليوم ليست مجرد استمتاع باللغة، بل هي قراءة لتاريخ نضال مرير دفع فيه الثمن غالياً، ليُثبت أن العلياء لا تُنال بلغو المناطق، بل باقتحام المضايق والتمسك بالمبادئ حتى النهاية.

مواقيت الصلاة

الأربعاء 06:02 مـ
26 جمادى آخر 1447 هـ 17 ديسمبر 2025 م
مصر
الفجر 05:12
الشروق 06:45
الظهر 11:51
العصر 14:39
المغرب 16:57
العشاء 18:21
البنك الزراعى المصرى
banquemisr