«لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».. هل تولي المرأة القضاء حرام؟
في إطار تناولنا للفتاوى الدينية التي تهم العديد من المسلمين، ومما يتساءل عنه البعض حكم تولي المرأة المناصب العامة؛ فهناك من يدَّعي حرمة تولي المرأة المناصب القيادية عامة، ومنصب القضاء خاصة مستدلًا بحديث النبي ﷺ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً».
وبطرح السؤال على دار الإفتاء أفادت على لسان الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية، بأن هذا الزعم بحرمة تولي المرأة القضاء، أو المناصب القيادية، زعم باطل، وأن الاستدلال عليه بالحديث المذكور غير صحيح؛ لأن الحديث ورد في واقعة معينة، ولم يردْ على سبيل العموم، وإنما كان دليلًا وعلامةً على استجابة دعاء النبي ﷺ على كسرى ومُلْكِه، فلا يستقيم في العقل حملُه على وجه العموم، ولا يُعَدُّ إخبارًا عامًّا منه ﷺ بأن كل قوم يُوَلُّون امرأةً عليهم أنهم لا يُفلحون، وإلا لكان ذلك مخالفًا في بعض الأحيان للواقع.
وأفادت الدار، في تأصيل الفتوى بأنه لا يصحّ الاستدلال على عدم جواز تولي المرأة المناصب العامة بقول النبي ﷺ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» والذي رواه الإمام البخاري؛ باعتبار هذا الحديث الشريف ورد على سبب مخصوص، وهو ما يُعرف في اصطلاح علماء الأصول بواقعة العين؛ وهي الحادثة أو النازلة المختصة بمُعَيَّن، والأصل في واقعة العين أنها تختص بالشخص المُعَيَّن الذى وقعت لأجله، فلا تعمُّ في حكمِها غيرَه، وكما تقرر في علم الأصول أن: "وقائع الأعيان لا عموم لها"؛ ومن ثمَّ فإن هذا الحديث الشريف واقعة عين، لا يُسْتَدَلُّ بها على غيرها أصلًا.
اقرأ أيضًا: هذه الأفعال تجعل الزوجة ناشزًا وعقوبة رادعة تنتظركِ شرعًا وقانونًا
ومما يُستدل به على أن هذا الحديث الشريف واقعة عين لا عمومَ لها: أنه ورد على سبب خاص في سباق وسياق ولحاق معين، لا يستقيم في بداهة العقل حملُه على وجه العموم، وقد تعرَّض لسبب وروده الخاص العلامة ابن الجوزي في "كشف المشكل" (2/ 16، ط. دار الوطن)؛ فقال: [سبب قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا: أنه لما قَتَل شيرويه أباه كسرى، لم يملك سوى ثمانية أشهر، ويُقال ستة أشهر، ثم هلك، فملك بعده ابنه أردشير، وكان له سبع سنين فقُتِل، فملكت بعده بوران بنت كسرى، فبلغ هذا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»؛ وكذلك كان، فإنهم لم يستقم لهم أمر] اهـ.
وحول شرح حديث النبي ﷺ، أنه بعث رُسُله برسائل إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الله عز وجل ومنهم كسرى ملك الفرس؛ قال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (18/ 58-59، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي سنة ستٍّ بعثَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبدَ اللهِ بنَ حذافة إلى كسرى ملك الفرس. قال الواقدي: كان ذلك في آخر سنة ستٍّ بعد عمرة الحديبية.. وقيل: في المحرم في سنة ست] اهـ.
اقرأ أيضًا: أمثلة شعبية تخالف الإسلام.. «كتر السلام يقل المعرفة»
ويأتي سياق الحديث ليشير إلى سوء أدب كسرى مع كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما أورده العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (14/ 210، ط. دار إحياء التراث العربي)، فقال: [إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزَّقه.. فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُمزَّقوا كلَّ مُمَزَّق] اهـ.
وقد أصابت دعوةُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كسرى وقومَه، ودعاؤه لا شكَّ في إجابته؛ قال العلامة ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (18/ 32، ط. دار النوادر): [ولما دعا عليهم صلى الله عليه وآله وسلم بذلك؛ مات منهم أربعة عشر ملكًا في سنة] اهـ.
وعن لحاقات الحديث الممثَّلة في الآثار المترتبة على دعوة النبي ﷺ: قال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (18/ 58-59): [فدعا على كسرى وجنوده بأن يُمَزَّقوا كلَّ مُمَزَّق؛ بحيث لا يبقى منهم أحد، وهكذا جرى ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة ولا أمر نافذ، وأدبر عنهم الإقبال حتى انقرضوا بالكلية في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه] اهـ.
اقرأ أيضًا: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده» ما المقصود من الحديث؟
وممَّا يؤيدُ هذا المعنى ويدلُّ على أنَّ الحديث الشريف يمثل واقعة عين لا عموم لها: أنَّ دلالة لفظ الفلاح الوارد في الحديث الشريف تشير إلى معنى البقاء والفوز، وهو المعنى الذي يناسب سباقات وسياقات ولحاقات الحديث؛ يوضح ذلك ما ذهب إليه العلامة اللغوي ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (4/ 450، ط. دار الفكر)؛ حيث قال: [الْفَاءُ وَاللَّامُ وَالْحَاءُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ، أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى شَقٍّ، وَالْآخَرُ عَلَى فَوْزٍ وَبَقَاءٍ.. وَالْأَصْلُ الثَّانِي الْفَلَاحُ: الْبَقَاءُ وَالْفَوْزُ] اهـ.
وعن الصلة الوثيقة بين سبب ورود الحديث الشريف ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كسرى ومُلْكِه: يقول الإمام القسطلاني في "إرشاد الساري" (10/ 192-193، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [والغرض من ذكر هذا الحديث هنا بيان أنَّ كسرى لمَّا مزَّق كتابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ودعا عليه؛ سلَّط الله عليه ابنَه فمَزَّقَه وقتَلَه، ثم قتَلَ إخوتَه؛ حتى أفضى الأمر بهم إلى تأمير المرأة؛ فجرَّ ذلك إلى ذهاب ملكهم ومُزِّقوا، واستجاب الله دعاءَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ] اهـ.
ولمَّا علم النبي ﷺ بولاية المرأة؛ أخبر أنَّ هذا علامةُ ذهاب ملكهم وتمزُّقه، إجابةً لدعوته عليهم؛ مصداقًا لقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57]؛ ومن ثمَّ فلا يُعَدُّ ذلك إخبارًا عامًّا منه صلى الله عليه وآله وسلم بأن كل قوم يُوَلُّون امرأةً عليهم أنهم لا يُفلحون.
«التقبيل في رمضان».. ما حكم الماء النازل من المرأة بسبب تحرك الشهوة؟




















